عندما يأتي شهر ذي الحجة يتبادر إلى الذهن على الفور موسم الحج إلى بيت الله الحرام، وحينها ينقسم المسلمون إلى فريقين:
الأول: شديد الفرح بأن منّ الله عليه بنعمة أداء الفريضة وإكمال أركان الإسلام الخمسة.
والفريق الثاني: فرح أيضا بهذه الأجواء الربانية، ولكنها سعادة يختلجها التوق والاشتياق لأن ينتقلوا من مقاعد المتفرجين على ضيوف الرحمن إلى صفوف المصلين في الحرم المكي والصاعدين إلى جبل عرفات، بل الأهم أن يكونوا من زمرة من غفر الله لهم في تلك اللحظات الربانية.
وبالرغم من أن الله عز وجل فرض الحج لمن يستطيع مصداقا لقوله تعالى: " وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً"[آل عمران:97] فإن هذا التوق والاشتياق للحج يكون أشد من أن يصبر المسلم فينا حتى إكمال القيمة المالية التي يستطيع بها أن يحج فتتحول هذه النية الصادقة إلى واقع واستجابة من الله لهؤلاء الذين يريدون أن يكونوا ضيوف الرحمن فيتقبلهم الله عنده.
هذا الكلام ليس مرسلا ولكنه ترجمة لقصص واقعية.. ولنبدأ بقصة "شهاب الدين" حاج باكستاني 80 عاما، يقول:
"أمضيت 50 عاما في جمع تكاليف قيمة الفريضة ولم يكن لي أمل أو رجاء أو هدف في حياتي سوى أدائها، والآن بحمد الله تم لي ما أردت".
ويستطرد شهاب الدين وملامح الفرحة ترتسم على وجهه:
"استغرقت مني تكاليف الحج كل تلك السنين نظرا لأنني أعمل راعيا للأغنام في باكستان، وأعول أسرة تضم 16 شخصا هم أبنائي وأبناء أخي المتوفى".
وعبر شهاب الدين عن فرحته الشديدة عندما رأى الكعبة بالعين المجردة بالبكاء الشديد، وأكد أنه لم يعد هناك شيء يهمه في هذه الدنيا بعد أدائه الفريضة سوى حسن الخاتمة.
وقبيل سفره إلى الأراضي المقدسة يحكي الشاب أيمن الصعيدي (29 عاما) الذي يعمل في مجال الصحافة أنه عزم على أداء فريضة الحج هذا العام، وأنه دفع كل ما يملكه وهو 4 آلاف جنيه للسفر إلى الأراضي المقدسة بعد أن منحه الله تأشيرة حج عبر أحد الأغنياء، مؤكدا أنه كان في أشد الاحتياج لزيارة بيت الله الحرام، خاصة بعد أن ضاق به الحال، وبلغ عامه التاسع والعشرين، ولم يوفق في عمل ثابت يتيح له الادخار للزواج، لذلك لم يبخل على أداء الفريضة بأن يدفع كل ما لديه من أموال للسفر إلى الأراضي المقدسة.
ملحمة أخرى عن سيدة تعمل في مجال الحياكة، وتدعى حميدة فرج توفي زوجها وقامت بتربية ابنتها الوحيدة حتى تزوجت فقامت بعد ذلك بادخار كل ما يتبقى معها من أموال قليلة تتحصل عليها من مهنة الخياطة لتحج بيت الله الحرام، وكان جيرانها يضحكون بسخرية عندما يسألونها لماذا تدخرين هذه القروش أو الجنيهات القليلة؟
فتجيبهم: لكي أحج.
وبالفعل أكملت نفقات الحج، ولكن بعد مرور 20 عاما وكانت قد بلغت الستين من عمرها وبعدما رجعت من الأراضي المقدسة تحسنت حالتها الصحية كثيرا، كما يحكي أحد جيرانها، ويدعى فوزي منصور، ثم توفيت بعد أيام قلائل، فتذكر الأهالي -كما يقول فوزي- قصة سيدنا نوح وأصحاب السفينة عندما كانوا يسخرون منه أثناء بنائها، ولكن تم ما كانوا يستهزئون منه " ليقضي الله أمرا كان مفعولا".
ترفيه إيماني
أما الحاج جمال عبد الفتاح فقصته مغايرة لما سبق من حكايات قد يراها البعض مأساوية في سبيل الحج إلا أنها تصب في نفس معنى عشق الحج، حيث غرز هذا الرجل ميسور الحال في أسرته من الزوجة والأبناء حب الأراضي المقدسة لدرجة أنهم يزورون بيت الله الحرام وقبر الرسول صلى الله عليه وسلم كل عام، وقد كافأ أبناءه في أحد الأعوام بالنجاح بأن ذهبت الأسرة كلها للحج حتى الأطفال في الأسرة، هذا الرجل يخصص الأموال التي تريد الأسرة إنفاقها في المصايف والرحلات للحج أو أداء العمرة.
وبعد أن تنفسنا الصعداء في القصص السابقة نعود للقصص التي تؤكد إعانة الله للعبد فكان الشاهد فيها حديث رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم:
"الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه" أو كما قال صلى الله عليه وسلم؛ فها هو أحد الأشخاص يقرض أحد أصدقائه 500 جنيه، وتحكي زوجته السيدة سهير ماضي –موظفة بوزارة الزراعة- أنها كانت تريد أداء فريضة الحج وكانت مشتركة في جمعية الحجاج بالوزارة بواقع جنيه كل شهر، فألحت على القائمين على هذه الجمعية أن تؤدي فريضة الحج فأخبرها أحدهم بأن تأتي بصورة لجواز السفر بالإضافة إلى 3 آلاف جنيه ولا بد أن تدفع نصف المبلغ على الأقل، ولم يكن معها سوى 500 جنيه ففوجئت بالشخص الذي أقرضه زوجها 500 جنيه -وهي لا تعرف- فأعطاها المبلغ الذي اقترضه من زوجها، ورجعت إلى القائمين على جمعية الحج وألحت عليهم فرفضوا مشددين على ضرورة دفع نصف المبلغ، فذهبت إلى البنك ووجدت أن الباقي من ادخار مرتبها 500 جنيه، ثم تم تقسيط الباقي على 30 شهرا بواقع 50 جنيها كل شهر مؤكدة أنها الوحيدة التي حجت بهذه الطريقة في الوزارة.
ونختم هذه النماذج بحكاية أحد الفلاحين ويدعى عبد الستار رجب -عامل زراعي 65 عاما– قام ببيع كل ما لديه من أرض رغم ما هو معروف من عشق الفلاح لأرضه إلا أن حبه لفريضة الحج كان أقوى.
ولكن الشاهد من القصة وما سبقها إصرار كل فئات المجتمع المسلم على أداء الفريضة باختلاف شرائحهم وظروفهم المادية، فهذا الفلاح يبيع أرضه، وهذا الرجل الغني لم يكتف فقط بأداء الفريضة مرة واحدة كما أمر الإسلام، ولكنه جعل الحج رحلة إيمانية ترفيهية للأسرة ليعزف الجميع سيمفونية الحب لهذا الدين، وملحمة الصمود أمام الظروف المادية المختلفة ليظهر في النهاية مدى العشق لزيارة البيت الحرام، ولبوا نداء الحق متى سمعوا النداء ومهما كانت الظروف.